على مشارف بوابات فيينا لامست عينا فرانس شوبرت النور في الحادي والثلاثين
من يناير 1797، وكان قد مضى آنذاك على موت (موتسارت) ستة أعوام، أما
(هايدن) فكان في أيامه الاخيرة، معتكفاً في بيته، بينما كان (بيتهوفن) يقضي عامه
الرابع في مدينة الموسيقى فيينا.
فيينا وقت مولد شوبرت
نشأ فرانس الصغير في حي (وادي النور) في بيت مكون من غرفتين، تقتسمهما
عائلة مكونة من ستة أفراد. ترعرع منذ صغره في احضان الموسيقى، اذ كان ابوه
يعطي دروسا خاصة في الموسيقى في احدى الغرفتين، كما كانت تتناهى الى سمعه
من كل حدب وصوب، اصوات الموسيقى والغناء، من أورغن كنيسة الحي، من
غناء الصيادين، او من المرتحلين عبر الغابة المجاورة. الأمر الذي حدا به الى
الوقوف مسحوراً للاستماع بكل صبر وأناة الى الأنغام المنبعثة من صندوق
الموسيقى اليدوي
اختزن شوبرت هذه الانطباعات والرؤى المبكرة، المشوبة بالحزن والتوجس
والاضطراب، الذي خلفته تهديدات نابليون بغزو النمسا، اختزنها في ذاكرته،
لتنعكس لاحقا على أعماله.
ابتدأ تعلم الموسيقى في السنة الثامنة من عمره، اعطاه ابوه حينذاك درساً على آلة
الكمان، وعلى يد أخيه الكبير تعلم العزف على آلة البيانو، أما الغناء فتعلمه في
كورال كنيسة (وادي النور) بقيادة الأب ميخائيل هولسر، كما أغرى الصوت
السبرانو المتميز للصغير فرانس ادارة الكورال بأن تسند له مهمة الغناء المنفرد في
عروض الكنيسة الموسيقية، أيام الآحاد. ولم تتوان الفرقة ان تختاره، عند غياب
أحد العازفين، للعزف على آلة الكمان، او على أورغن الكنيسة، الذي استطاع،
وهو ابن العاشرة، ان يعزف عليه الانغام المتعددة (البوليفوني) برشاقة واجادة
ملفتة للنظر. وعندما كان يستمع اليه الأب هولسر، كانت دموعه تنهمر احتفاءً
وفرحاً بهذه الموهبة الفذة، التي لم يصادف شبيهاً لها من قبل. قال مرة عنه عندما
كنت أعطيه دروساً جديدة، كان يعرفها مسبقاً، وعندها توقفت عن ذلك. أخذت
اتحدث معه فقط، واستمع إليه بصمت واعجاب شديد بموهبته المدهشة.
بادل شوبرت، من جانبه، معلمه، الذي استفاد منه كثيراً في تجذير شخصيته
وموهبته، الحب والتقدير، واهداه عند وفاته مقطوعة قداس.
ومن الجدير بالذكر، ان شوبرت ألف أول الحانه في فترة اشتراكه مع فرقة
الكورال الآنفة الذكر، ولكنه لم يوفق للأسف في الاحتفاظ به.
شوبرت والعصر الرومانتيكي:
شوبرت الذي نشأ في بداية القرن التاسع عشر، تأثر هو الآخر بالاتجاه الرومانتيكي
الذي بدأ يرسخ أقدامه فلسفياً في نهاية القرن الثامن عشر في المانيا، وكان من
أبرز فلاسفته فيتشه، شلنج، هيجل وشوبنهاور. والرومانتيكية اتجاه شامل، انعكس
على مستويات عدة، على الفلسفة والأدب والفنون بمختلف تلاوينها، بما فيها
الموسيقى.
تبنت الرومانتيكية، خلافاً لتصوّر فلاسفة القرن الثامن عشر الكوني للعالم،
ولايمانهم بالقيم الثابتة، تصوراً آخر نقيضاً، ينهض على الايمان بالصيرورة
المتجددة للوجود والتقدم، وعلى الاحتفاء بالحياة، وبالذات المتفردة، بكل غموضها
وهذياناتها، بتساؤلاتها الحارقة وحقائقها المواربة.
كتب الفيلسوف هوفمان حينذاك (ان روح الموسيقى تتغلغل في الطبيعة كلها). ليقدم
بذلك تمثلا موسيقيا لوحدة الوجود، واضاف ان الموسيقى هي اكثر الفنون
رومانتيكية، ان لم تكن هي الفن الرومانتيكي الوحيد.
لقد قيض للموسيقى من بين سائر الفنون ان تصل الى مرتبة مرموقة لم تنلها من
قبل، حتى ان فيلسوفا مثل شوبنهاور، يصفها بانها تعبير عن الارادة الكلية لا مجرد
صورة لها. وفسح المجال في هذه الفترة للمؤلف الموسيقي، ان يؤلف بقدر اكبر
من الحرية، وان يرتاد عوالم لم تكن معروفة لفناني العصور السالفة. لقد تحرر
أخيراً من سطوة الكنيسة ومن براثن قصور الامراء والاثرياء، وانصرف الى
تطوير فن السيمفونية، والى الاشتغال على الاوبرا، لتتحول الى عرض يتسم
بالغنى والاتساع، كما وجهت عناية خاصة الى الاغاني الفنية، التي أبدع فيها
شوبرت ايما ابداع، ووضع أسسها الفنية وأغناها.
في كتابه الفيلسوف وفن الموسيقى كتب الباحث الامريكي (جوليوس بورتنوي):
(لقد كان فرانس شوبرت اكثر الرومانتيكيين رومانتيكية) فهو الذي أنشأ الاغنية
الفنية الليد الالمانية، حتى انه فاق بيتهوفن ذاته في خلق ألحان جميلة. وأدت ألحانه
الدافئة، الألفة والمناسبة الى مضاعفة تأثير مجموعة كبيرة من اجل المقطوعات
الشعرية الالمانية، فقد ألهمه تبجيله لجوته، ان يصنع ألحاناً للكثير من اشعاره، غير
ان غوته لم يكن يبادله تقديره لعبقريته، ذلك أن شوبرت كان يريد ان تكون للحن
السيادة المطلقة على الكلمة المنطوقة، بينما اعتقد غوته بضرورة خضوع
الموسيقى للنص الشعري. ولكن هل أراد شوبرت ذلك حقا؟ اننا نعتقد ان ما سعى
اليه شوبرت هو شيء آخر تماماً، كما سنبين ذلك لاحقاً.
شوبرت والأغنية الرفيعة
الأغنية الرفيعة مصطلح اطلق على الاغاني التي تتجلى فيها أهمية المرافقة
الموسيقية اثناء الغناء، الذي اتخذ هو الآخر شكلا تصاعدياً مركباً، بالضد تماما
لأغنية عصر الباروك، الذي كان دور الآلة الموسيقية فيه، ينحصر على ضبط
الإيقاع يعزف هارموني تقليدي كخلفية للحن مكرور، لقد ألف كثير من الموسيقيين
الكلاسيكيين ألحان هذا النمط من الغناء، ولكنه لم يتطور إلا في العصر
الرومانتيكي وعلى يد فرانس شوبرت، الذي لحن ما يقارب الـ600 أغنية، ليفتتح
بهذا الفن الجديد بوابة عالم رحيب لم يكتشف من قبل. لقد فاق شوبرت أقرانه في
هذا المجال، وتبوأ موقعاً رفيعاً، لم تتضاءل اهميته على مر العصور.
كانت نصوص الأغاني تنهمر عليه من حيث يدري ولا يدري، كان أصدقاؤه الذين
يقدرون عالياً فن هذا الموسيقي المتميز، وينوبون عنه في البحث عن نصوص
جديدة، اضافة لما يكتبه الشعراء منهم لإنجاح هذه التجربة الفريدة.
تتميز أغاني شوبرت بمقدمات موسيقية، يفتح من خلالها الابواب على صور النص
الشعري، الذي كان يعبر عنه ويجسده بألحان قوية وعنيفة حيناً، وهادئة وشفافة،
حينا آخر، متناغماً مع المسار الدرامي للقصيدة الشعرية، وكان يمنح المرافقة
الموسيقية دوراً لا يقل أهمية عن الغناء، إذ كانت الموسيقى تتناغم مع ميلودي
الغناء تارة، ثم تشاكسه او تتحاور معه تارة أخرى.
ان إعادة شوبرت الاعتبار الى المقاطع الموسيقية المصاحبة للغناء، واعطاءها
المستوى ذاته من الاهمية، أهلته لأن يكتشف طريقة مبتكرة، تعزز دور آلة البيانو
المرافقة للغناء، حيث أصبح من الممكن اغناء الصورة الفنية بعشرات الالوان،
التي تستنطق أدق المعاني الشعرية، واصبح لعازف البيانو الموقع ذاته الذي كان
يستأثر به المغني نفسه. فوجد عندئذ كل طرف منهما ضالته فيها. اعجب بها عازفو
البيانو، لما تخلفه من مسحة فنية أخاذة ومترامية الابعاد من جهة، وبسبب ما
تعطيه لهم من دور مميز، من جهة ثانية. كما وجد المغنون في التحولات المقامية
والتلوين الصوتي والحس الدرامي، التي تتضمنه هذه الطريقة، أفضل ما يصبون
اليه في مسعاهم لتطوير ادائهم واغناء تجربتهم الفنية. وكان يقف في مقدمة هؤلاء،
مغني الاوبرا المعروف آنذاك، (يوهان فوجل) الذي التحق عام ٧١٨١ بحلقة
أصدقاء شوبرت.
في كتابه لعبة الكريات الزجاجية كتب (هيرمان هيسه) عن احدى أغاني شوبرت
(ايمان الربيع) قائلا: (انها تبث عبيرا، كما العبير الذي يبثه البيلسان، عبيراً مراً
حلواً، قوياً مضغوطاً، مفعماً بأجواء الربيع). وها نحن ندرج أدناه مقطعاً من اغنية
المسافر
من الجبال أتيت
من أبخرة الوادي
واصطخاب البحر
اتحرك بصمت
وبقليل من الفرح
تسألني التنهيدة... الى أين؟
الشمس تبدو لي ذابلة
الازهار ذاوية
والعمر يشيخ
شخصيته:
قصر قامة شوبرت كانت سببا في اعفائه من الخدمة العسكرية، وكان الى جانب
ذلك يشكو من قصر النظر، كان هادئاً منغلقاً بعض الشيء، رغم العدد الوفير من
الاصدقاء، لم يكن يثير اهتمام أحد، ولكن ما أن يبدأ بالعزف حتى يتألق بحضور
طاغٍ ومتقد.
عانى شوبرت على امتداد حياته من العوز، ولم يكن لديه سكن خاص به، كان
يسكن متنقلاً عند أصدقائه، وبخاصة عند صديقه الحميم (شوبر). اما حظه مع
الجنس الآخر، فكان عاثراً، حتى انه عندما أحب فتاة من الكورال وأحبته، لم يكتب
لهذه العلاقة التوفيق، لعدم حصوله على وظيفة تساعده على تحمل أعباء الزواج.
ومع انه كان دائم العشق للنساء، إلا انه لم يوفق في اقامة أية علاقة خاصة مع أية
واحدة منهن. ولذلك لم يكن مستغرباً بان يتشح فنه بمسحة من الاسى والشجن.
ويقال انه في احدى الاماسي الخاصة، التي اعتاد أصدقاؤه اقامتها، وبعد ان عزف،
وغنى بعضاً من أغانيه، سألته احدى الفتيات: (يا سيد شوبرت هل تؤلف للحزن
فقط؟) فأجابها مستغرباً: (وهل يوجد شيء آخر؟) وكانت حتى أنغامه المرحة
ومارشاته وألحانه الراقصة مشوبة بنفحةً من ألم شفيف وتوق للدفء.
مراحل مهمة في حياته:
في عام 1808 حصل شوبرت على منحة للدراسة والغناء في (معهد الدولة
وكورال البلاط لليافعين) وهو من ابرز المدارس الموسيقية في فيينا، وكان من بين
اساتذته الموسيقار الايطالي (سالييري)، وبسبب موهبة شوبرت الفذة وصوته
السوبرانو الجميل، احتفى معلموه الجدد به وافتتنوا بموهبته، حيث كتب معلمه
(فينسيل روتسكا): (لا أقدر ان اعلمه اكثر من هذا، فالذي لديه هبة من الله). في
العام الرابع عشر من عمره ألف اعمالاً لا يستهان بها. وفي عامه السادس عشر
كتب رائعته الفنية الاولى (السيمفونية رقم1) بمستوى رفيع قربه من موتسارت
وبيتهوفن، اللذين أحدثت أعمالهما وقعاً مدوياً على موسيقيي ذلك الجيل، ومنهم
شوبرت. كانت الالحان تنثال عليه بتلاوين هارمونية، مؤطرة بالمفاجأة، ومشبعة
بقبس من ذلك الالق العبقري المتوهج، وربما كان لسان حاله يقول كما قال
موتسارت (العمل جاهز في رأسي). بعد خمس سنوات انهى شوبرت دراسته في
المعهد، ولكنه ظل يواصل لبعض الوقت التلمذة على يد (سالييري). وفي عامه
السابع عشر لحن العديد من اشعار (غوته) شاعر ألمانيا العظيم. وبدون علمه
أرسل أحد أصدقائه باقة مختارة من هذه الاغاني الى الشاعر (غوته)، وارفقها
برسالة تقدير واحترام كبيرين،موضحاً للشاعر الكبير بان ليس للملحن علم بهذا
الامر، ورجاه بأن يبدي رأيه في أعمال صديقه. ولكن ، لا جواب من (فايمار). بعد
زمن طويل، وكان شوبرت قد ووري التراب، تذكر (غوته) الطاعن في السن
موضوع هذه الاغاني، التي أهملها حينها ولم يأبه بها، قائلا لمؤرخه (إكرمان) ان
انطباعه الاول عندما سمع احدى هذه الاغاني، التي انتشرت في (فايمار) آنذاك،
انها تحمل صوراً جلية
كان عام 1817 زاخراً، بالانتاج الفني، إذ كتب فيه شوبرت السيمفونيتين الرابعة
والخامسة، مقطوعات عديدة لموسيقى الحجرة، سوناتات لآلة البيانو، القداس الرابع
ولحن 110 أغنيات. واستمر بين عامي 1818 - 1820 يلحن بهدوء ومثابرة
ولساعات طوال، في تلك الغرفة الخاوية، الا من سريره وآلة البيانو واوراق النوتة
الموسيقية.
شوبــــرت وبيتهوفن:
منذ نشأته الموسيقية كان شوبرت كثير الاعجاب بأعمال بيتهوفن، وكان يعزفها
بشغف، منقباً عن كنوزها المخبوءة وناهلا من معينها ما يضيف لمعارفه الموسيقية
معارف أخر، اكثر امتداداً واعمق غوراً. عندما اصاب بيتهوفن الصمم وفضل حياة
العزلة، كان شوبرت قد بلغ السنة الخامسة عشرة من عمره. ورغم وجودهما في
فيينا إلا انهما لم يلتقيا وحتى في تلكم المشاوير، عندما كانا يتنزهان مصادفة عبر
الطرق والحدائق التي تحيط بالمدينة. ويظهر في لوحة للرسام (كوبلفيزر) رسمها
عام 1822 مشهد عام للمتنزهين في الحدائق المحيطة بمدينة فيينا، يظهر فيها
بيتهوفن يتمشى متفكراً غير آبه بما حوله، بينما يسير شوبرت بالاتجاه المعاكس،
ماسكاً قبعته، ومنحنياً ليحيي أحد المارة. ولكن رغم ذلك، لم تخف على بيتهوفن
موهبة الشاب شوبرت، ولم يكن يمل الحديث عنه، وتنبأ لأعماله الذيوع والانتشار.
كتب (انطون شندلر) احد المقربين من بيتهوفن (حين قدمت له مجموعة من أغاني
شوبرت، وكان عددها يقارب الستين اغنية، ومنها كانت مجرد مخطوطات، لم
تستنسخ بعد، اندهش الفنان العظيم، الذي لم يكن يعرف ما يتجاوز اصابع اليد
الواحدة من أغاني شوبرت، اندهش بهذا العدد الهائل، ولم يرد أن يصدق بان
شوبرت قد ألف ما يتجاوز الـ500 أغنية، فطلب مني أن أجلب له أعمال شوبرت
الاخرى، من اوبرات ومقطوعات للبيانو، ولكن مرضه، الذي كان يشتد بلا أمل في
الشفاء، حال دون تحقيق هذه الفكرة
سيمفونيات شوبرت:
ألف شوبرت ثماني سيمفونيات فقط. تتنازع سيمفونياته الست المبكرة التي كتبها ما
بين عامي 1813- 1818 ، عندما كان طالبا في المعهد الموسيقي، تأثيرات
كلاسيكيات بيتهوفن وموتسارت من ناحية، ورومانتيكيات، مندلسون وشومان، من
ناحية ثانية. كما كانت أجواء الموسيقى الايطالية حاضرة فيها، عبر انغام روسيني
التي تركت بصماتها على السيمفونية الثانية، وخاتمة السيمفونية الثالثة، التي
تضمنت لمحات من رقصة (التارانتلا) الشعبية الايطالية. وقدم شوبرت ولأول مرة
في سيمفونيته الخامسة المهداة لموتسارت، مقطعاً تصدره البوق والطبل،
وبانسجام لم يسبقه اليه أحد.
وسميت سيمفونيته الثامنة من مقام سي مينور، بالناقصة، لان شوبرت لم يتمكن
بسبب وضعه الصحي، إلا من كتابة حركتين فقط من مجموع حركات السيمفونية
الاربع، وكانت الحركتان تنحوان منحى السوناتا، وتتشابهان في شكليهما، بحيث لا
يشعر السامع بانتهاء الاولى وابتداء الثانية، فالوزن فيهما يكاد يكون متشابهاً،
اضافة الى تباطؤ سرعتيهما. ومع عدم اكتمالها فانها تعد من اشهر وأغرب ما كتب
شوبرت. أما سيمفونيته التاسعة (دوماجور) المسماة بـ(السيمفونية الكبيرة) فهي
على الضد من سيمفونياته المبكرة، إذ أنجزها بشكل مميز وباستقلالية اكبر. فلا
يسترعي انتباه المرء، منذ بداية الحركة الاولى لها، تقاطع الآلات الوترية مع
الآلات النفخية فحسب، بل أيضا نمط البناء والتناوب فيما بينهما، بادائهما لثلاث
جمل موسيقية، تتكرر بأشكال مختلفة. كما استعمل شوبرت فيها ثلاث آلات
(ترومبون) وهي خطوة مبتكرة، بعد عشر سنوات من رحيله عثر الموسيقار
(روبرت شومان) بالصدفة على هذه السيمفونية التي اعجب بها كثيراً، وعمل على
طبعها في مدينة لايبرك، ونشرها في عموم أوروبا، ابتداء من منتصف القرن
التاسع عشر. قال الموسيقار التشيكي الكبير (دفورجاك) عن أعمال شوبرت (كما
اقيم عالياً أغاني شوبرت، فاني اقيم بشكل اعلى أعماله الموسيقية وبخاصة
سيمفونيتيه الاخيرتين
شوبرت وعالم الأوبرا
متأثرا بالعديد من الموسيقيين الذين سبقوه في مجال الاوبرا، ابتداءً من الموسيقار
(كلوك) الذي شاهد له مبكراً، اوبرا (أفغينيا) ومن ثم موتسارت في (الناي السحري)
، و(زواج فيغارو)، والايطالي روسيني في (حلاق اشبيلية) و(وليم تل)، عمد
شوبرت الى ولوج عالم الاوبرا. ولكن رغم أغانيه التي تمتاز بالعذوبة والشفافية،
فانه لم يستطع ان يقلل من تأثير الملل الذي كانت تسببه النصوص الطويلة، والذي
كان يترك بصماته قوية على عروضه الاوبرالية.
جماعة الشوبرتيون:
بسبب موسيقاه وروحه العذبة وبساطته، أحاط شوبرت عدد غفير من الاصدقاء
الاوفياء. دخلوا حياته فاعجبوا به، واحاطوه بالرعاية طيلة حياته. كانوا يشعرون
بانه لا يشبه أي واحد منهم، وانه جدير برعايتهم له وتقديرهم اياه. أصحابه نخبة
من الشباب، من ذوي الذوق الفني الرفيع، شعراء، رسامون وموظفون، اطلقوا
على انفسهم (الشوبرتيون). كانت أماسيهم الموسيقية (الشوبرتية) هي محور
تجمعهم، يستمعون فيها لآخر انجازات معشوقهم فرانس على آلة البيانو، والذي لم
يبخل عليهم بعد ذلك، بارتجالات موسيقية راقصة، كانت تدوم حتى ساعة متأخرة
من الليل. وكانت تجمعهم مع بعضهم أيضا متابعة النتاج الادبي والمعارض الفنية
وحضور أمسيات فيينا الموسيقية.
عاش شوبرت شبابه مع هذه النخبة المنتقاة في ربوع فيينا البهيجة، وبالذات في
ضواحي المدينة في منطقة تلال الكرمالأكثر بهجة، بالقرب من نهر الدانوب
رحلة الشتاء:
في فبراير من عام 1827 وعند زيارته لأحد الاصدقاء، عثر شوبرت مصادفة
على اشعار كتبت على تقويم سنوي، للشاعر (فيلهلم موللر)، وسرعان ما اسرته
لغتها الرومانسية وأجواءها الموشاة بالشجن والغموض، فأقدم على تلحينها، وانتهى
منها في الثاني من اكتوبر من نفس العام. كانت المجموعة تتكون من اربع
وعشرين قصيدة، وتحمل عنوان (رحلة الشتاء)، ولم ير شوبرت في ذلك الزمن
المتطامن، مثل هذه الحساسية المفرطة، ولا ذلك الحزن المحض والعوالم الموحشة
كتلك التي قاربها في هذه الاشعار. واكتشف، وهو في غمرة العمل، انغاماً وتلاوين
جديدة تمتاز بالشدة والعمق وتتواءم مع المشاعر الفياضة للبطل المرتحل، الهائم
على وجهه وسط الثلوج والعواصف الهوجاء. ويبدو ان العمل على هذه الاشعار قد
أنهكه نفسياً وجسدياً، مما حدا به لأن يبتعد عن الآخرين، وحتى عن اعزهم لديه.
كتب شباون وهو أحد اصدقاء شوبرت يقول: (كان شوبرت في هذه الفترة نزقاً وذا
مزاج معتم، كئيباً وقليل الكلام. وعندما سألته عما جرى له، قال لي: عن قريب
ستسمعون، وتدركون عندها مغزى عزلتي. وحقاً أدهش شوبرت أصدقاءه ومحبيه
بهذا الانجاز الدرامي الرائع. كانت لكل أغنية فيه شخصيتها وبناؤها الموسيقي
المؤثر. نورد ادناه الاغنية الاولى من أغاني المجموعة:
ليلة سعيدة
لا قدرة لي على اختيار موعد السفر
عليّ ان اتحسس في هذه العتمة الطريق لوحدي
كرفيقٍ
يصحبني ظل القمر
يعدو معي
وعلى البساط الثلجي الابيض
أبحث عن الخطوة الموحشة
الحب يعشق الرحيل
هكذا أراد الله
ليلتك حبيبتي (ليلة سعيدة)
لم ارد ان أشوش أحلامك
فحرصت ان لا تسمعي خطواتي
بهدوء .. بهدوء
أغلقت الباب
كتبت على البوابة (ليلة سعيدة)
حتى يلذك
أني أفكر بكِ.
اول حفل موسيقي عام
ظل شوبرت يعرض أعماله لاصدقائه ومريديه في حفلات خاصة. ورغم ذيوع
صيته في فيينا، الا انه لم يقدم أعماله في حفل موسيقي عام، إلا في وقت متأخر،
بعد ان اقترح عليه صديقه الشاعر (باورنفيلد) ان يعرض أعماله للجمهور، وفي
26 مارس 1828، الذي صادف الذكرى السنوية الاولى لوفاة بيتهوفن، قدم
شوبرت بمساعدة اصدقائه، أول حفل موسيقي عام، في صالة وسط مدينة فيينا.
تنوعت أعماله في هذه الامسية ما بين رباعيات وترية ومقطوعات لآلة البيانو
وأغانٍ عديدة مختارة. امتلأت الصالة بجمهور مدينة الموسيقى ذي الذائقة الفنية
المميزة. وكانت القاعة تضج، بعد كل معزوفة، بالتصفيق الحار المتواصل. ولم
تبخل عليه صحف فيينا أيضا بالاطراء والاعجاب، الى جانب سعادته باعجاب
الجمهور حصل شوبرت على مبلغ لا يستهان به من المال، ساعده على تجاوز
بعض من أزمته المالية. وبدا حينها اكثر سعادة من ذي قبل.
وفاته:
وفي الخريف من العام نفسه، انتقل شوبرت للسكن في بيت أخيه. ورغم اشتداد
المرض عليه، إلا انه استطاع ان يؤلف في تلك الفترة، اثنتين من أكثر أعماله
نضوجاً واهمية، وهما السيمفونية الثامنة (الكبيرة)، وخماسيته الوترية الوحيدة. في
نهاية اكتوبر، ظهرت عليه اعراض مرض التيفوس، الذي اضطره ان يلازم
الفراش، ليودع الحياة في حدود الساعة الثالثة من ظهر يوم التاسع عشر من نوفمبر
عام 1828، ولم يتجاوز عمره آنذاك، احدى وثلاثين سنة. وفي ساعاته الاخيرة
كان يردد، عاليا، اسم بيتهوفن، وسط سورة من الاهتياج والهذيانات. دفن شوبرت
بجانب قبر بيتهوفن، حيث كانت امنيته. وكتب شاعر النمسا الكبير (فرانس
كريلبارسر) على شاهدة قبره (تدفن هنا ثروة كبرى من النغم والآمال الجميلة.
واطلق عليه الموسيقار شومان (أخى الروحى وقال عن موسيقاه إنها (سماوية)
نعم، انه فرانس شوبرت، الذي قال عنه معلمه روتسكا الذي لديه هبة من الله