«ستابات ماتر» في اللاتينية تعني «الأم الحزينة»، المتفجعة
، وهي قصيدة دينية مكرسة لآلام العذراء تحت صليب ابنها
القتيل. كتبها شاعر من القرن الثالث عشر يدعى «دا تودي»
لتنشد في حرم الكنيسة، بدون هارموني ومصاحبة آلات. مع
السنوات أصبح هذا الاداء ضربا من التأليف الموسيقي للأصوات
البشرية، تطور على يد موسيقيين عظام من
أمثال «باليسترينا»، من الموسيقى المبكرة، و«بيرغوليسي»،
من الباروك، و«هايدن»، من المرحلة الكلاسيكية،
و«روسيني»، «فيردي»، «دفورجاك»، من المرحلة
الرومانتيكية، و«ستانفورد»، و«شيما نوفسكي» من المرحلة
الحديثة.
«ستابات ماتر» تقسم، عادة، الى عشرة فصول، حسب النص
الشعري. والموسيقي يفسر النص لحنيا على هوى نوازعه
العاطفية، ودوافعه، وهذه النوازع والدوافع حزينة ملتاعة
بالضرورة. لا تخلو من بعد شخصي، ولكن العمل الموسيقي يطمح
في النهاية الى ان ينتفع من كل هذه ثم يتجاوزها الى أفق
أشمل من حدود التاريخ الديني وحدود الظرف الشخصي، وهذا
ما تمثل في رائعة الموسيقي التشيكي «دفورجاك» (1841 ـ
1904).
في عام 1875 كان دفورجاك في حمى ابداع استثنائية، وضع
سمفونيته الخامسة، والسيرينيد الوترية، وثلاثة أعمال مهمة
من موسيقى الغرفة، وأوبرا «فاندا»، وكانت السنة، أيضا،
سنة فقدان حزينة ماتت فيها ابنته الطفلة «جوزيفا» ومن
يراجع رائعته ثلاثية البيانو لا بد ان يلمس بالاصابع عمق
هذا الأسى على الشغاف الرقيق، ولكنه سيلمسه بصورة أشد في
رائعته الأخرى «ستابات ماتر»، التي وضعها على اثر الحادثة
أيضا، ولكي تصبح هذه الرائعة نار أسى شاءت الاقدار، في
مرحلة التأليف الأوركسترالي، ان تفجع دفورجاك بموت ابنته
الأخرى «روزينا»، وموت ولده الوحيد «أوتاكار»، ولذلك
نصغي، منذ الجمل الموسيقية الأولى، الى طبيعة تراجيديا
ملحمية في تفتح الافكار الموسيقية المتتالية. الصرخة
القلبية المفاجئة توحي بارتفاع وجه الأم الباكي الى ابنها
في نزعه الأخير، والحركة الأولى، الطويلة بصورة فريدة
(عشرون دقيقة)، بين مد وجزر يقودانها الى الذروة. في
الحركة الثالثة لحن درامي شديد الاتساع، على وقع مارش
يذهب قدما وبتهدج مؤثر، وهكذا يأخذنا العمل الى مشارف لا
تخلو من اضاءة، لأن دفورجاك، الذي ينطوي على ايمان ديني
عميق وعفوي، يرى في الألم طريقا يقود الى الفرح، وهذا ما
يحدث مع بناء العمل الذي يستبدل المقام الصغير (ويرتبط
بالمزاج الحزين) بالمقام الكبير (الحيوي المبهج) في
الفاصل بين الحركات الأربع الأولى والأربع الثانية.
اصدار دار DG الألمانية لهذا العمل لا يخلو من اطار محزن.
فالذي قدم هذه الحلة الجديدة في توزيع العمل هو قائد
الاوركسترا الايطالي «جوسيبي سينوبولي»، الذي توفي على
الأثر في شهر ابريل (نيسان) الماضي، سينوبولي (من مواليد
1946) شخصية ثقافية استثنائية. فهو مؤلف موسيقي، وجراح،
وعالم نفس، وعالم آثار بالمصريات، ثم قائد أوركسترا من
الطراز الأول، اشتهرت بين يديه أعمال قدمها لمالر وبروخنر
وشومان وبوتشيني، وعمل دفورجاك الديني هذا كان آخر
انجازاته، ولقد غلب عليه الطابع الأوبرالي، وكأنه أراد ان
يعكس تأثرات دفورجاك بالموسيقي الأوبرالي فيردي.
في هذا العمل، الذي قاده الراحل سينوبولي، تشترك أربعة
أصوات: سوبرانو، وميتسو ـ سوبرانو نسائية، وتينور، وباص
رجالية، مع الكورس، والنص الشعري لاتيني الأصل، دفورجاك
شديد التأثر بالموسيقي باليسترينا من عصر الباروك، ولكن
موسيقى هذا الأخير، شأن موسيقى المرحلة تلك، موضوعية
خالية من البعد الشخصي، ولكن هذا البعد قوام موسيقى
دفورجاك، خاصة بهذا العمل الذي ولد نتيجة مشاعر الموت
والفقدان الشخصي، ولذلك جاءت غنائيته المعهودة غاية في
العذوبة، خالية من الاحتدام والدراما، حتى لو حاولها قائد
الاوركسترا، مستسلمة لفيض أحزان المصائر البشرية ولفيض
الرضا الذي تمليه العناية الالهية على الكائن.
إن الفقدان الشخصي هنا مضاف الى المشاعر الدينية
الخالصة، ولك ان تتخيل أي لحن شجي يخرج من ذلك!.
هناك تأثرات ملموسة بموسيقى فاغنر، وأشياء من هاندل، اذ
كان دفورجاك كثير التردد على انجلترا، وكذلك من لمسات
موسيقى برامز الخريفية، وكان هذا الأخير بمثابة استاذ
مباشر لم يكف دفورجاك عن الاعجاب به، إلا ان الطابع القومي
التشيكي يظل هو الأبرز، وخيط الأسى في موروثه لا يخفى عن
أذن مستمع.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]