انطونين دفورجاك
1841 -1904
هو المؤلف الموسيقي التشيكي العظيم الذي جمع في أسلوبه
بين الموسيقى القومية لبلاده تشيكوسلوفاكيا و بين
الإمكانيات العلمية الحضارية التي استوعبها الالمانى
الكبير برامز في فكره ووجدانه.. هو مؤلف سيمفونية
العالم الجديد والرقصات السلافية وأوبرا روزالكا العذبة..
ولد »انطونين دفورجاك «. بعد مولد سلفه ومواطنه سميتانا
ابو الموسيقى التشيكية ورائد موسيقاها القومية بسبعة
عشر عاما..
كان ذلك في سبتمبر عام ١٨١٤ بإحدى ضواحي العاصمة »براج«
وكان الابن الأكبر لجزار القرية الذي كان يملك فندقها
الوحيد.. وقد رزق أبوه من بعده بثمانية
أطفال..
صورة نادرة لوالدة دفورجاك
وهذا ما جعل طفولته في شدة القسوة والمعاناة..
أعده والده ليرث عنه مهنة الجزارة وبالفعل اصطحبه معه
ليساعده في عمله الذي يبعده تماما عن مهنة الفن
الموسيقى.. ولكنه مع كل ذلك كان مولعا بالموسيقى فدرس
الفيولينة وتمكن بسرعة من الوصول في عزفها إلى درجة
مكنته من دراسة الأداء العام بكنيسة القرية أما ناظر
مدرسة القرية وكان يدعى »انطوني ليمان « فقد علمه عزف
البيانو والاورغن كما علمه النظريات الأساسية الأولى
للموسيقى.. وذلك بعد أن اكتشف موهبة الطفل الخارقة
للعادة وظروفه العائلية التي تدعو إلى رعايته والاهتمام
به و يرجع إليه الفضل في إقناع والديه بموهبة الابن
النادرة و بضرورة مواصلة تعليمه الموسيقى .
في عام ١٨٥٧ التحق دفورجاك بمعهد دراسة الاورغن بالعاصمة
براج
وتخرج منه بعد عام من العمل الجاد والتحصيل الضخم
والتعرف على إمكانيات هذه الآلة الموسيقية الهائلة
والمعقدة.
وبالرغم من أن سميتانا لم يكن أستاذه بشكل مباشر فإن
دفورجاك كان قد اتخذ من مؤلفاته نبراساله حتى أن أعماله
طوال حياته حملت ملامح بصمات سميتانا الموسيقية كمدرسة
قومية نادرة..
موسيقاه يعتبر تكملة للطريق الذي سار فيه سميتانا..
فبينما كان السلف
مجردا في فنه نجد دفورجاك رومنتيكيا متحررا ولكن مع
التزام بالقوالب
الكلاسيكية الرصينة للسيمفونية وأعمال موسيقى الحجرة
والموسيقى
الدينية.. والأوبرا وأعمال البيانو والأغاني.. وكافة
القوالب الكلاسيكيةالتي تناولها في مؤلفاته.
كان أول عمل التحق به وهو في الثامنة عشرة من عمره > هو
عزف الفيولا بفرقة كانت تعمل بأحد المطاعم الكبرى ببراج.
وفي عام ١٨٦٢
المنزل الذى ولد به دفورجاك
التحق بأوركسترا المسرح القومي حيث عمل عازفا تحت قيادة
سميتان لسنوات طويلة انتهت بعام ١٨٧٣ . كان مرتب العازف
من القلة بحيث ليكفي لسد حاجات الحياة الضرورية فاضطر
دفورجاك إلى تدريس الموسيقى وعزف الاورغن بالكنيسة إلى
جانب عزفه بالأوركسترا حتى يتمكن من كسب عيشه الضروري.
من الجدير بالذكر أن دفورجاك كان يكتب الموسيقى بانتظام
ومثابرةطوال تلك الفترة من حياته.. ولم يكن مقتنعا هو
نفسه بأي قيمة فنية لهذه
الأعمال الأولى فأحرقها جميعا حتى لا يصدم بأي خطأ يلاحظ
فيها وقرر مواصلة الدراسة حتى يتمكن من الصنعة الموسيقية
في أعلى وأقدرمستوياتها..
وحتى عندما كان يرضى عن بعض أعماله لم يكن يوافق أن
يعرف أحد شيئا عنها فهي بالنسبة له محاولات على طريق
الفن..لذلك لم يكن حتى زملاؤه في الأوركسترا يعلمون شيئا
عن مؤلفاته إلا بعدعزفها.. ولم يسمع عنه النقاد شيئا إلا
بعد أن فوجئوا .بمؤلفاته تعزفمرات ومرات حتى أن سميتانا
اعجب بها ووضعها في برامج حفلاته كأعمال ناجحة.. وهنا
اتجهت إليه الأنظار كمؤلف موسيقي جديد.. وكانت
سيمفونيته الثالثة من أهم أعماله التي اعجب بها سميتانا
ولفت إليهالأنظار وأدى نجاحها والنقد الرائع الذي حصلت
عليه إلى البحث في
حصيلة أعماله وهنا تعاقدت معه دار الأوبرا على تقديم
عمله الاوبرالي الثاني( الملك وعامل المنجم ) الذي كان قد
كتبه فيما بين عام ١٨٧١ - ١٨٧٣ .. وحدث أثناء التدريبات
على أداء هذه الأوبرا أن اتضح عدم إمكانية عرضها
لصعوبتها ولعدم ملائمة النص الشعري. فما كان من دفورجاك
إلا أن سحب العمل.. وأعاد كتابة الأوبرا من أولها إلى
آخرها متجنبا كل ما ظهر انه صعب أو غير ملائم.. حتى
أصبحت هذه الأوبرا عملا فريدا في تراث الأوبرا العالمية من
ناحية الجمال الوسيقي وملاءمة اللحن للأداء الاوبرالي. وحتى
يتمكن دفورجاك من التفرغ للتأليف فقد ترك العزف
بأوركستراالمسرح وعمل عازفا للاورغن بالكنيسة مكتفيا
بالقدر القليل من الذي يدره عليه هذا العمل الذي لا يشغل
من وقته سوى ساعات قليلة كل أسبوع.
وتعمق في جذور الوطن التشيكي وقوالبه ا <وسيقية النابعة
من طبيعةموسيقاه الشعبية مستلهما روح الشعب على هدى
خطوات سميتانا العظيم
الذي كان قد فطن من قبله إلى أهمية الأوبرا في الموسيقى
التشيكية بالنسبة للحركة القومية بوجه عام.. فمنح هذا
القالب مزيد من الوقت والعمل والتأمل..وبعد انتهائه من
أوبرا »الملك وعامل المنجم « كتب أوبرا ريفية بعنوان (
الفلاحون ذوو رؤوس الخنازير ) وانتهى منها عام ١٨٧٤ .
وفي عام ١٨٧٤ تقدم دفورجاك بطلب إلى الحكومة ليحصل على
منحة كانت تقدم للموسيقيين الموهوبيين وذلك بهدف التفرغ
الكامل للتأليف
ولمحاولة الاستزادة من معارف عمالقة التأليف أمثال برامز
وتشايكوفسكي..وأرفق بطلبه كل من السيمفونية من مقام »مي
بيمول كبير « و »ري صغير«وكان »برامز « العظيم عضوا في
لجنة التحكيم فاهتز كيانه بأعمال هذاالموسيقي غزيرة
الموهبة.. وبالطبع حصل على المنحة وبدأ يعمل
وينتج..ويسافر إلى »فينا « من وقت لآخر وهي عاصمة
الموسيقى التي تقع على بعد بضع كيلومترات من الحدود
التشيكية).. للقاء برامز وأخذ مشورته فيما يكتب من أعمال.
كان برامز الالمانى الأعزب العجوز.. يلتقي به وقت الغداء
في المطعم
اﻟﻤﺠاور لميدان القديس كارل بفينا. ومن وقت لآخر كان يجد
له الوقت الكافي لمراجعة دقيقة لكل ما كان يكتبه من
أعمال.. ومن هذه اللقاءات طبع برامز بصماته الفكرية على
أعمال دفورجاك الذي لم يكتف في أعماله
بالتعبير الصادق بل أصر على أن تخرج في أعلى مستوى من
الشكل الموسيقى الذي لم يجده متحققا في مؤلفات موسيقي
آخر أفضل من برامز..
كانت العاطفة العميقة والإحساس بالطبيعة وإحساسه
بالإيقاعات الشعبية التشيكية تشكل ألحانه الغنائية الثرية
ومضمونها الموسيقى الهائل المتدفق في تكامل.. وهذا ما
ميز أسلوبه في كل من المضمون والشكل على السواء..
تكون جانب كبير من شهرة دفورجاك على إمكانياته الرائعة
التي عالج بها النص الشعري الشعبي لمقاطعة مورافيا.. وقد
بلغ إعجاب برامز بها
حدا كبيرا جعله يتحمس لنشرها. فاتصل بصديقه الناشر
سيمروك Simrock ببرلين ورجاه أن يحتضن هذه الأعمال
النادرة الأصالة.. وأدى ذلك إلى تعاقد جديد مع دفورجاك
كان من نتيجته أن يكتب »الرقصات السلافية «
الشهيرة لثنائي من آلات البيانو ثم للأوركسترا... وتميزت
هذه الرقصات
متحف دفورجاك ببراج
وبدأت شهرتها العالمية على الفور لما تميزت به من
الأستاذية الناضجة في إمكانيات الكتابة الموسيقية
والاستعمال البراق لوسائل التعبير الموسيقي
فضلا عن الميلوديات الغنائية الشاعرية والإيقاعات المثيرة
وأصبحت من اشهر الأعمال الاوركسترالية التي عرفها التراث
لموسيقى العالمى عل الإطلاق.
بدأت شهرة دفوجاك تغزو العالم وتضطرد.. وتوالت عليه
العروض من الناشرين في مختلف أنحاء العالم.. والتكليف من
الجمعيات الموسيقيةاﻟﻤﺨتلفة بشتى بقاع العالم لكتابة
مزيد من الأعمال الموسيقية.. وكانت
جميعها تحقق النجاح واﻟﻤﺠد والشهرة لمؤلفها العبقري
المثابر.
وتلقف قادة الأوركسترا أعماله بإعجاب وقدموها للجماهير
بأقصى إعجاب وعناية ورعاية.. وكان على رأسهم »هانز
ريختر « الذي كان يدعوالمزيد من الناشرين للاستماع إلى
أعمال دفورجاك الجديدة لينشروهاعلى العالم بأسره..وبعد
أن حصل على هذا النجاح والتقدير في داخل بلاده وفي شتى
بقاع العالم بدأ مهنة جديدة وهي القيادة الموسيقية
فظهر لأول مرة على منصة القيادة عام ١٨٧٨ .. ونجح في
قيادة أعماله التي كان قد اعتاد الاستماعإليها من أشهر
قادة الأوركسترا وانتقل من أوركسترا إلى خرى وأحب هذه
المهنة وأتقنها حتى أنه كثيرا ماقدم أعمالا لمؤلفيين
آخرين على رأسهم أستاذه برامز وسلفه ومعاصره سميتانا..
برغم نجاح مؤلفاته بشكل ساحق فان مؤلفاته في مجال
الأوبرا لم تلق نفس ا لمستوى من الاستقبال الجماهيري..
فأصر على مواصلة البحث وراءلإجادة في هذا اﻟﻤﺠال الذي
اعتبره اﻟﻤﺠد الأول للموسيقى التشيكية..
فالأوبرا هي اﻟﻤﺠتمع كله مجسدا على ا لمسرح في دراما
إنسانية بصريةسمعية.. وكان ا لمسرح القومي بالعاصمة براج
يستعد للافتتاح فكتب بكل طاقته أوبرا »ديمترى « عام ١٨٨١
بموضوع روسي شهير و بالرغم من الإجادة والنجاح فإنه عاد
إليها عام ١٨٩٤ وحاول تحسينها.. وتدريجيا وجد أنه أعاد
كتابتها بالكامل.. من أجل الإجادة والصدق.. وعندما تعرض
هذا الأوبرا الآن نستمع إلى نصوصها الأصلية الأولى مع تبديل
بضع فواصل قليلة من النسخة المعدله
وفي عام ١٨٨٢ ماتت أمه. ونستمع إلى مسحة الحزن العميق
تسري في عدد من الأعمال التي ضمنها فجيعته وعلى رأسها
سيمفونيته السابعةمن مقام ري صغير والتي نشرها »سيمروك «
برقم مخالف هو رقم ٢نفس الخطأ نجده قد وقع فيه بالنسبة
لسيمفونيته الثامنة من مقام صول كبير) والتي نشرها برقم
٤ وكذلك سيمفونية العالم الجديد التي كتبها دفورجاك
برقم ٩ ونشرها سيمروك برقم ٥.
من ا لمهم جدا أن نذكر كيف لعبت كل من فينا ولندن وباريس
دورها فى حياة دوفورجاك كما لعبته في حياة الكثيرين من
زعماء الموسيقى الرومنتيكية
على وجه الخصوص.. كانت فينا هي الكعبة التي تلهم عباقرة
النغم فيحجون إليها ويعيشون تحت سمائها.. فهي النبع
الخصب العريق للمدرسة
الاكاديمية فيها عاش الأ لمانى بتهوفن أغلب سنوات حياته..
واليها حج برامز وقضى اكبر جانب من حياته.. وغيرهم
كثيرون.. وكذلك دفورجاك
كان يجد فيها العلم والمستوى الاكاديمى من الدراسة
والإبداع والأداء والاستماع والنقد.. أما باريس فهي
الحياة.. الصالونات وملتقى الأدباء
والفلاسفة والرسامين والموسيقيين في بوتقة واحدة هي حياة الفن
وصالونات الفن والحب والفلسفة.. ولندن.. وجد فيها
الموسيقيون مجالا كاد يميا للأداء.. فهي أقل هذه البلاد
إبداعا للموسيقى ولكنها أكثرها
بحثا عنها-فهي تدعو كبار الموسيقيين لعرض فنونهم وتمنحهم
الدرجات العلمية.. وقد منحت الدكتوراه الفخرية في
الموسيقى لكل من هايدن وبرامز ودفورجاك.. وكثيرين
غيرهم تقديرا لإمكانياتهم التي تفتقر هي إليها..
زار إنجلترا تسع مرات على الأقل فيما بين عام ١٨٨٦ و
١٨٩٦ وهناك قاد الأوركسترا مقدما أغلب أعماله في لندن
وبرمنجهام وليدز. ولم يدركه الغرور قط حتى وهو في قمة
مجده ونفوذه قال »بالرغم من كل هذه الشهرة سأظل كما
كنت دائما التشيكي البسيط.. والموسيقي القروي «
وكان دائما يؤكد قوميته ومنبعه.. ضاربا ا لمثل في
القومية والبساطةوالتواضع.
كان صديقا حميما لقائد الأوركسترا الشهير »هانز فون
بيلوف « الذي قدم موسيقاه إلى جماهير أ لمانيا بالذات..
وبدعوة منه زار دفورجاك
أ لمانيا وقاد أشهر اوركستراتها وحصل على نجاح .مماثل
لأمجاد لندن..
فما كان منه إلا أن أهدى سيمفونيته من مقام فا كبير التي
كان قد كتبها عام ١٨٧٥ إلى صديقة عرفانا بالجميل وقد
سافر »هانز فون بيلوف « بعد ذلك بسنوات إلى مصر ليقيم
بها ويعمل بموسيقات الجيش المصري ثم بأوبرا القاهرة..
حتى مات بالإسكندرية ودفن بها.
كان تشايكوفسكي قد زار براج في ثلاث مناسبات كانت المرة
الأولى عام ١٨٨٨ حيث قدم حفلة وتعرف على دفورجاك واعجب
بموسيقا حتى أنه أهداه »المتتالية الثالثةللأوركسترا «..
وفي عام ١٨٩٠ دعاه
تشايكوفسكي ليزور روسيا و يقدم أعماله لجماهيرها. وفي
موسكو استقبلت لجماهير موسيقى دفورجاك بعاصفة عارمة من
التصفيق.. وقبل أن يعود إلى وطنه أهدى لتشايكوفسكي
سيمفونيته من مقام ري صغير عرفانا بالجميل ورمزا
للتقدير.
وبعد عودته عين أستاذا للتأليف ا لموسيقى بمعهد براج
الموسيقى و أصبح ا لمدير الفني لنفس المعهد الذي تفانى
في خدمته حتى أنه أثرى الموسيقى التشيكية بتعليمه
وتخريجه ﻟﻤﺠموعة من أعظم الموسيقيين التشيك أمثال سوك-
نوفاك-كاريل.
وصلته دعوة من أمريكا ليتولى رئاسة ا لمعهد الموسيقي
بنيويورك وقد لبى الدعوة ليوسع من دائرة جماهيره
ودراساته الفنية.. وهناك وجد بيئة
جديدة ملأت كيانه بأحاسيس من نوع غريب.. كان أفضل تعبير
عنه سيمفونية العالم الجديد التي ضمنها ألحانا شعبية
للهنود الحمر والزنوج الافارقة تلك الأغاني التي كانت
تعمق أحاسيسه بالغربة رغم كل فرص الشهرة والعمل والكسب..
أحاسيس الحنين للوطن واللهفة للعودة إليه..
وبعد عودته إلى براج واصل عمله كمدير للمعهد
الموسيقى وكتب أعمالا جديدة عديدة أهما أشهر أوبراته (
روزالكا ) وأكثرها جماهيرية ونجاحا.
فهي من الاعمال التى يشتمل على أقصى ما وصل إليه دفورجاك
من إمكانيات في أعماله السيمفونية والاوبرالية على
السواء.. وأصبحت اكثر الأوبرات
التشيكية بعد الخطيبة المباعة لسميتانا رواجا في ا
لمسارح التشيكية.
وفي أول مايو من عام ١٩٠٤ .. شعر بوعكة خفيفة مات بعدها
بأيام قليلة عن ثلاثة وستين عاما.. أنتج خلالها تراثا
مجيدا للبشرية تتبلور فيه صور من الجمال الفريد
والإيقاعات الساحرة والتوزيع الاوركسترالي الثرى
الذي اكتسبه من خبراته التي كونها من زياراته للكثير من
الدول والشعوب..والتي استمدها من بيئته في قلب الريف
التشيكي.. وفي عمق الألحان الشعبية التي تتغنى بكل
الجوانب الإنسانية لوطنه الحبيب تشيكوسلوفاكيا
جنازة دفورجاك عند وفاته بمدينة براج