بيلا بارتوك
١٨٨١- ١٩٤٥
B.Bartok
بارتوك من العبقريات الكبيرة في موسيقا القرن العشرين فهو صاحب
لغة موسيقية خاصة به صهرتها شخصيته الفريدة من عناصر محلية مجرية
ومن معرفته العميقة بالموسيقا الفنية الأوربية في الماضى والحاضر.
وينفرد بارتوك بين معاصريه بعمق صلاته بالموسيقى الشعبية للمجر
وما حولها ومع ذلك فإن مكانته الرفيعة بمؤلفي القرن العشرين و
القرون التالية ليست مستمدة من صفته القومية وحدها فهو مؤلف خصب
الخيال نبيل التعبير جريء الابتكار جرى قلمه بروائع موسيقية استقرت
ب كلاسيكيات القرن العشرين مثل رباعياته الوترية الستة على رهافة
صلتها بالفولكلور. وعلى الرغم من هذه المواهب الموسيقية والذاتية فإننا
لا نبالغ إذا ذكرنا أنه يدين بثراء أسلوبه وتفرده للمسة التي لازمته طوال
حياته وهي ارتباطه الخصب بالموسيقى الشعبية عامة فهي قد كانت دائما
القوة الدافعة له وموسيقاه حتى في أعماله المتأخرة التي توارت فيها الملامح
الشعبية نوعا ولم تعد صلتها بالفولكلور موسيقية ملموسة بل تحولت لصلة نفسية
عميقة.
حياته:
ولد بارتوك في اﻟﻤﺠر سنة ١٨٨١ ويروي في ترجمته
الذاتية أن والده كان عاشقا للموسيقا نظم أوركسترا للهواة وعزف فيه
التشللو توفى والده وهو في الثامنة اضطرت والدته لكسب عيش أسرتها
بالتدريس في مدن مختلفة ا أتاح للصبي فرصة التعرف على الموسيقى
الشعبية. وظهرت إمارات موهبته الموسيقية مبكرة فلقنته
والدته أول درس للبيانو وفي التاسعة كتب مقطوعات صغيرة للبيانو.
وعندما استقرت الأسرة أخيرا في براتسلافا سنة ١٨٩٣ وكانت وقتها
جزءا من اﻟﻤﺠر بدأ دراسته الجدية للموسيقا ويكتب بارتوك أنه حين بلغ
الثامنة عشرة كان على معرفة طيبة بالموسيقى من باخ إلى برامز وبعض
أعمال فاجنر.
والتحق بارتوك بكونسرفتوار بودابست حيث درس البيانو وتفوق فيه
ودرس التأليف على كوسلر Koessler وإن كانت علاقتهما متقلبة.
وكتب بارتوك أثناء الدراسة مؤلفات مبكرة ولكنه توقف بعدها عن
التأليف لفترة كان فيها يبحث عن وجهته الفنية. وفي الكونسرفتوار التقى
بزميله سلطان كوداي Kodaly الذي كان مثله مشغولا بالبحث والكتابة عن
الموسيقا الشعبية اﻟﻤﺠرية D وأثارت بحوثه لدى بارتوك تطلعا لمعرفة المزيدعن
تلك الموسيقا ليستمد منها الإلهام في عمله الإبداعي وهكذا بدأت
صداقتهما الوطيدة ورفقتهما الموسيقية التي تآزرا فيها على كشف النقاب
عن الموسيقا الشعبية اﻟﻤﺠرية الأصيلة وتجشما المشاق لجمعها من قرى
اﻟﻤﺠر ثم أصدرا مجموعات كثيرة منها مدونة ومحققة لم تكن معروفة
ولا منشورة من قبل وبهذه اﻟﻤﺠموعات القيمة استطاعا أن يصححا الفكرة
الخاطئة السائدة عن تلك الموسيقا.
وجدير بالذكر أن أبحاثهما في هذا اﻟﻤﺠال كانت انعكاسا 'وجة التحرر
الوطني والاهتمام بإحياء اللغة اﻟﻤﺠرية وكل ما يؤكد الهوية الثقافية اﻟﻤﺠرية.
وكان بارتوك عندما توقف عن التأليف في بداية حياته يواجه أزمة فنية
وروحية وجد الخلاص منها في اهتماماته العلمية والفنية بالفولكلور
وكانت بحوثه الفولكلورية بداية طريق طويل خصب قاده إلى هدفه الفني
والقومي المنشود.
وكان عام ١٩٠٤ تاريخيا في حياته إذ بدأ فيه أولى رحلات الجمع
الميداني لأغاني الفلاح اﻟﻤﺠري ولكنه لم يقتصر عليها وحدها لإ انه
تخطى الحدود السياسية الفاصلة ب اﻟﻤﺠر وجاراتها فامتدت رحلاته
إلى رومانيا وسلوفاكيا وأوكرانيا ويوجوسلافيا وبلغاريا بل وتركيا والجزائر
واستغرقته عدة سنوات كانت سنوات اختمار وتشرب للعناصر الشعبية
التي شكلت أسلوبه الخاص فيما بعد وقد عاونته منحة حكومية من اﻟﻤﺠر
على بحوثه الفولكلورية ورحلات الجمع والتسجيل
وفي عام ١٩٠٧ عين أستاذا للبيانو بكونسرفتوار بودابست وظل يشغل
هذا المنصب حتى عام ١٩٣٤ كما أنه أصبح عضوا نشطا في أكاد يمية
العلوم اﻟﻤﺠرية من ١٩٣٥ حتى ١٩٤٠ وخلال هذه السنوات توفر على
مراجعةوإعداد اﻟﻤﺠموعة الكبيرة من الموسيقا الشعبية اﻟﻤﺠرية للنشر.
وظلت شهرته كعازف فيرتيوزو للبيانو طاغية على شهرته كمؤلف
في اﻟﻤﺠر وكان نشاطه في العزف قد توسع فيما بعد الحرب العالمية
وحقق فيه شهرة عالمية في أوربا وأمريكا وجاء الاعتراف بموسيقاه من أوربا
عامة في أواخر العشرينات حيث قدمت أعماله بها
قبل تقد يمها في اﻟﻤﺠر وكان يحز في نفسه أن مواطنيه لم يعرفوا قدره
كمؤلف إلا متأخرا
وكان من أسباب معاناته النفسية انه اتخذ موقفا أخلاقيا نابعا من حبه
للحرية إذ أعلن مناهضته للفاشية إلى حد أنه منع عزف مؤلفاته في
إيطاليا والمانيا النازية وعندما تعاونت معهما حكومة اﻟﻤﺠر قرر أن
يغادر البلاد وأن يهاجرفي نفي اختياري إلى أمريكا حيث وصل إليها عام
١٩٤٥ تاركا وطنه الذي كان حبه له نورا أضاء حياته وهناك عاونته منحة
للبحث من جامعة كولومبيا على إنجاز دراسته عن الموسيقا الشعبية كما
منحته تلك الجامعة الدكتوراه الفخرية واستمر يكتب مؤلفاته الكبيرة
الأخيرة مثل كونشيرتو البيانو الثالث الذي كتبه لزوجته الثانية
وكونشيرتو للأوركسترا وغيرهما ولكن ضيق موارده ومرضه ألقيا ظلالا
قا تمه على سنواته الأخيرة وتوفى سنة ١٩٤٥ بنيويورك تاركا وراءه عملين
كبيرين أنجزهما بعده تلميذه تييور سيرلي Serly من مسوداتهوشيعه لمثواة
الاخير عدد ضئيل ولم يشعر الرأي العام حينئذ بوفاة هذا العبقري الذي ترك
بصمته على موسيقا القرن العشرين غير أن التقدير لبارتوك تزايد في أوروبا
وأمريكا بعد وفاته وسجلت اﻟﻤﺠر وغيرها جميع مؤلفاته الموسيقية ونشرت عنها
أبحاث عديدة متعمقة وقدره الجيل التالي من مؤلفي أوربا
امتد إنتاج بارتوك لكل أنواع المؤلفات وإلى أنواع طريفة غير مطروقة
من اﻟﻤﺠموعات وقد تطور أسلوبه في تيار متصاعد يصعب معه تقسيم
أعماله بمراحل شديدة التحدد كما أن هناك خلافا بين المؤرخين على تلك
المراحل ومع ذلك فإن هناك سمات موسيقية ونفسيةترجح تقسيم حياته
إلى ثلاث مراحل يوحد بينها جميعا عنصر جوهري هو قوميته التي تطورت
ظواهرها في كل مرحلة ولكنها لم تختف في أي منها.
المراحل الثلاث:
والمرحلة الأولى من ١٩٠٣ إلى ١٩٢٦
وهي فترة استكشاف الموسيقاالشعبية وتشربها والتأليف بأسلوب قومي وثيق
التأثر بها وقد كتب بارتوك في بدايتها أعماله القومية المبكرة التي لم تبتعد كثيرا
عن النطاق القومي الواضح لأواخر القرن الماضي ولكنه تطور خلالها في اتجاه
تعميق صلته بالفولكلور وتطوير تناوله له وقد كتب في هذه الرحلة بعد القصيد
السيمفوني كوشوت الذي تأثر فيه بالموسيقارشتراوس ورابسودية
البيانو والرابسودية الأولى للبيانو والأوركسترا ١٩٠٤ ومتتابعه للأوركسترا سنة
١٩٠٥ وكونشيرتو الفيولينة الأول عام ١٩٠٧ وللأوركسترا لوحتان عام ١٩٠٨
ومجموعة مقطوعات الباجاتل عام 1908
ومقطوعات سكتشات البيانو سنة ١٩١٠ ثم الرباعيتان
الوتريتان الأولى عام ١٩٠٨ والثانية ١٩١٧ وبهما بدأ بارتوك أمجاده في
موسيقا الحجرة برباعياته الوترية الستة التي عدت بالإجماع امتدادا عصريا
عظيما لرباعيات بيتهوفن الخالدة وفي عام ١٩٠٨ أيضا ألف للبيانو
مقطوعاته الخمسة والثمان التي كتبها بأسلوب بسيط وتناول فيها عناصر
لحنية وإيقاعية شعبية تناولا فنيا فجاءت تحفا فنية صغيرة وأسماها
للأطفال «For Children» كما كتب أوسع أعماله انتشارا »الآللجرو الوحشي أو
البدائي «Allegro Barbaro عام ١٩١١ وهو الذي حقق له شهرة عريضة
بأسلوبه الطرقي الحاد وبها رمونياته الخشنة
وفي عام ١٩١٢ كتب أربع مقطوعات للأوركسترا ثم خمس عشرة أغنية ريفية
مجرية للبيانو عام ١٩١٧ ومتتابعة سويت للبيانو سنة ١٩١٦ وارتجالات
Improvisations للبيانو سنة 1920
وصوناتيتن للفيولينة والبيانو سنة ٬٢١ ١٩٢٢ غلب فيهما طابع مجرى
رابسودي وتناول فيهما الآلات تناولا شديد التميز وبأسلوب تعبيري لعله
تأثر بموسيقا شونبرج. ومن أحب مؤلفاته من هذه الفترة الرقصات
الرومانية ١٣والترانسلفانية Transylvanian Dances للبيانو
وهي من أنجح مؤلفاته القومية القائمة على ألحان فولكلورية رومانية شعبية
تناولها بأسلوب سلس وبذوق رفيع وفي آخر هذه ا لمرحلة أنجز بارتوك
سنة ١٩٢٣ متتابعة الرقص Dance Suite للأوركسترا
وفي عام ١٩٢٦ كتب كونشيرتو البيانو الأول وصوناته البيانو وعملا آخر
نراه أقرب لفكرالمرحلة الثانية وهو متتابعة البيانو ( Im Freien ) في الهواءالطلق
غير أن أبرز مؤلفات هذه المرحلة هي أعماله المسرحية الثلاثة التي
نفرد لها بضع سطور لأهميتها الموسيقية والفنية في هذا القرن بعامة
وبعدّها أعماله المسرحية الوحيدة للمسرح وأولها أوبرا قصر الدوق ذي
اللحية الزرقاء Duke Blue Beard‘s Castle وهي عمل يجمع ب صفات
الأوبرا والأوراتوريو بحكم الحركة المحدودة فيه كتبه الشاعر بالاس Balasz
فحوله لدراما رمزية نفسية تحتمل عديدا من التفسيرات ويرجع النقاد أن بطلته
جوديت ليست إلا رمزا للمجر وهي عمل تراجيدي مثل أغلب الأوبرات القومية
التي يولدها الشعور بالظلم والاضطهاد وموسيقاها مكتوبة بأسلوب درامي شديد
التماسك والتلوين وهي تعد من أنجح الحلول في الأوبرا المعاصرة لأن الغناء فيها
جزء أصيل من النسيج الموسيقى وللموسيقا فيها دور بليغ يعوض عن نقص
الحركة الموسيقية. والعمل الثاني هو البالية بانتوميم الأمير الخشبي «The
Wooden Prince سنه 1916 أما عمله الثالث الكبير باليه »الحكيم الصيني
العجيب ١٩١٨
فقد أثار ضجة بقصته الشاذة والموقف الأخلاقي الذي تتخذه فهي تعكس حالة
الإحباط وخيبة الأمل التي سادت في كثير من الفنون الأوروبية بعد الحرب العالمية
الأولى وهو تيار تجلى في أعمال
المدرسة التعبيرية Expressionist . وقد منعت الرقابة في اﻟﻤﺠر عرض هذا
الباليه حتى عام ١٩٤٦ وموسيقاه مع ذلك من أقوى ما كتب بارتوك ومن أكثر
مؤلفات هذه المرحلة تعبيرا عن ملامح أسلوبه التي بدأت تتبلور ولكن المقاومة
العنيفة التي لقيتها أعماله المسرحية وخاصة هذا الباليه أدت إلى عزوفه عن هذا
اﻟﻤﺠال بعد ذلك.
والمرحلة الثانية ١٩٢٦ - ١٩٣٧ وقد توقف إنتاجه فيها خلال أربع سنوات
من ١٩١٥ استغرقته فيها أبحاث الموسيقا الشعبية وفيها اهتم بالتجريب
وهي الفترة التي كتب فيها بعضا من أعظم مؤلفاته مثل اﻟﻤﺠلدات الستة القيمة
مقطوعات البيانو المسماة العالم الصغير Mikrokosmos والتي استغرقت من
1926 - حتى 1937
وفي هذه المرحلة أنجز الرباعيات الوترية الثالثة والرابعة والخامسة كما كتب ٤٤
ثنائية لآلتي فيولينة وكونشيرتو الكمان الثاني ١٩٣٨ وكونشيرتو البيانو الثاني
١٩٣١ والذي يذكر بكونشرتات
باخ وقرب ختامها أنجز أكبر وأهم أعماله وهو المسمى »موسيقا للوتريات
وآلات الإيقاع والشلستا Music for Strings, Percussion, & Ce lesta
وهو قمة أعماله للآلات حقق فيه سيطرة تامة على هذه اﻟﻤﺠموعة
الطريفة من الآلات وتجلت فيها أنضج سمات أسلوبه وخاصة في النسيج
البوليفوني والرنين الموسيقي الشائق غير المألوف. وفي عام ١٩٣٧ كتب
»الصوناتة لآلتي بيانو وآلات الإيقاع ٢٠Sonata for two pianos &
Percussion وفتح فيها آفاقا جديدة للرنين الصوتي ومن أشهر مؤلفاته القومية
عمله الكبير »الكانتاتة الدنيوية «Cantata Profana لأصوات الرجال المنفردة
وكورال مزدوج وأوركسترا كتبها على أسطورة شعبية مجرية ووفق فيها .اما في
الكتابة الغنائية منفردة أو كورالية مع استلهامه للألحان اﻟﻤﺠرية ولكن بفن رفيع.
أما المرحلة الثالثة فتبدأ من ١٩٣٧ و حتى وفاته سنة ١٩٤٥ وهي
مرحلة طمأنينة استعادت فيها موسيقاه شيئا من العذوبة التي افتقدتها
بعض مؤلفات المرحلة الثانية وأثرى موسيقاه فيها ذلك الاندماج التام لكل
منجزاته السابقة بسيطرة مطلقة على لغته الموسيقية.
وأهم أعماله فيها »الديفر Divertimento ترفيه لأوركسترا وترى
عام ١٩٣٦ والكونشيرتو للأوركسترا سنة ١٩٤٣ والرباعية الوترية السادسة
وكونشيرتو البيانو الثالث سنة ١٩٤٣ والفيولينة الثاني سنة ١٩٣٧وصوناته
للفيولينة المنفردة سنة ١٩٤٤ أما كونشيرتو الفيولا فقد توفى قبل إتمامه وأكمله
بعده سيرلي
ولا نختتم هذا العرض الموجز لحياة بارتوك دون إشارة
لزيارته مصر سنة ١٩٣٢ تلبية لدعوتها له لحضور مؤتمر القاهرة الموسيقي
الدولي الأول والذي تولى بارتوك فيه رئاسة لجنة التسجيل ولا شك أن اتصاله في
ذلك بموسيقات الشعبية العربية واطلاعه على كل تلك
الفرق الفنية من أنحاء العالم العربي قد هيأ له خبرة أفضل وأوسع بالموسيقا
العربية فنية وشعبية كذلك ذهابه لواحة بسكرة بالجزائر لتسجيل الموسيقى
والاغانى الشعبية بها وكذلك رحلاته لتركيا وبلغاريا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا و
اوكرانيا واليونان والبانيا لجمع الموسيقى الشعبية لتلك البلاد